ألاحظ كثرة الحديث عن الحب والمحبين واحوالهم حتى ممن لم يجربوا الحب أو يعيشوه ..
عرفنا الحب ومايرافقه من تواجد وعذاب مما نقرأه من قصص وقصائد تصور حال الهيام بين المحبين , وكذلك مما نسمعه بين الحين والأخر من حديث يدور في المجالس
ولذلك سأطرح اليوم بين أيديكم موضوع فيه نظرة جميلة وصائبة عن الحب راق لي كثيرا((الحب مزيج من المشاعر المختلفة كالأنبهار والتولّه والشغف والغيره والشك والأمل واليأس واللقاء والحرمان..
وينتج عن هذا المزيج العجيب سعادة ترتعش وعذاب يتربص حتى إن لذة الحب تمتزج بالألم وألمه يمتزج باللذة فالعاشق على صفيح ساخن في حياته إثارة وهي أحيانا إثارة مدهشة.. سارة.. وأحيانا إثارة كاوية.. حارة.. فلقاء الحبيب ومشاهدته ومحادثته لذة مجنحة ولكن في أجنحتها بعض الجروح المؤلمة من الخوف على الحبيب والخوف من فقدانه ومن الإحساس بلذع الغيرة حين يكون المحبوب لعوبا مغرما بتعذيب عاشقه.
وقد لاتكون المحبوبة الجميلة قاصدة لإثارة غيرة الحبيب وكوي قلبه بنارها ولكن لكونها جميلة ولكونه يعشقها فهو يخيل إليه - أينما نظرت بعينيها الجميلتين - أنها تريد إثارة غيرته بإغراء الآخرين وأينما خطرت بقوامها الساحر المتمايل فإنما تريد التلاعب بقلبه حيث يعتقد العاشق الولهان أنها محط الأنظار ومقصد الأبصار وأنها تريد إثارة غيرته وإشعال نيران عذابه يظل مغرما بها ولتحس بمكانتها حين ترى عذابه بسببها.
وهي قد تكون بريئة تماما ولاتقصد شيئا من هذا ولكن روعة الجمال فيها أنى نظرت أو خطرت بقوامها شيء يثير الإعجاب في الآخرين بما لاحيلة لها فيه فهي قد خلقت هكذا متعة للعيون ولوعة للقلوب ومما يزيد عذاب العاشق انه يرى جمالها مضاعفا عشرات الأضعاف لأنه متيم بها فيظن أن حركاتها العادية ونظراتها الطبيعية المقصود منها تغديبه إذكاء نار الغيرة في قلبه وهي لا تقصد هذا ولكنها لا تملك إلا أن تكون جميلة وأن تكون حركاتها ونظراتها مغرية لأنها خلقت هكذا..
يضاف إلى ذلك أن المرأة إذا أحست بشدة غرام الرجل بها تسر سرورا يميل بها إلى الغرور والدلال الذي يميل إلى التثاقل والصد وقد صور هذا الملك الضليل امرؤ القيس فقال باختصار:
«أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وماذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهمك في أعشار قلب مقتل»
فهي بارعة في إثارة حبه وجنونه إلى آخر حد وبموهبة نسائية فطرية مرة بالابتسامات الحلوة ومرة بالدموع حينا بالصد وحينا بالإقبال مرة بالهجر ومرة بالوصال وبالوعد والإخلاف وبالتجديد والتغيير وبالحراير والعطور وبالخيط الرفيع بين الأمل واليأس حتى كان العاشق يطارد فراشة رائعة بين الزهور يصعب الإمساك بها.
يقول أبو فراس الحمداني:
تكاد تضئ النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
والمحبوبة تريد لهذه النار أن تضئ لترى فيها كم هي جميلة ومرغوبة.. وهي التي أوحت له بالصبابة والفكر.. فالحب الذي يحيط العاشق بكل ماهو جميل يلسعه بقوة..
ويقول صالح جودت:
«ياملاكي أنا من أحببت عذابي..
ونشرت الغزل المشبوب في كل الروابي..
وبنار الشوق واللهفة أحرقت شبابي».
فلماذا أحب عذابه واستطابه؟ لأنه هو ثمن التمعن في مفاتن الحبيب وهو راض بدفع هذا الثمن لأن ما يحصل عليه ألذ وإن مزج بالعذاب..
وقد يجن العاشق بمحبوبه أي لايكاد يرى غيره ولا يفكر إلا فيه فهو مجنون به وإن كان عاقلا ومع ذلك يرى أن في هذا الجنون لذة كبرى لأنه يجعل حياته متعلقة بشيء رائع الجمال يتمثله دائما.. قال الشاعر:
«قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم:
مالذة العيش إلا للمجانين!»
قلت وهو يعيش في سعادة سببها «وشرة» الجنون في رأسه المفتون بهذه المرأة ويقول المثل إن المجانين في نعيم يقول ديل كارنيجي: «إن المجانين أكثر سعادة مني ومنك! وكيف لا يكونون كذلك وقد حلوا كل مشاكلهم ووجدوا في دنيا الأحلام الأهمية التي طالما تمنوها في أعماق نفوسهم؟.. إن في وسع الواحد منهم أن يمنحك شيكا بمليار دولار أو يعطيك خطاب توصية لجنكيز خان!!» قلت: ومجنون العشق لم يصل إلى هذه الدرجة من الانسلاخ عن الواقع فهو عاقل إلا من علاقته بمحبوبه فهو مجنون به وهذا ما يعطي حياته أهمية كبيرة ولا يجعل للملل مكان في وجوده إن معظم الناس لهم اهتمامات مختلفة أكثرها عملية ومهمة فالتاجر همه تجارته وبائع العطور يشم الحياة من فتحتي أنفه ومضارب الأسهم همه ارتفاع سهمه.. هم العاشق معلق بشيء آخر جميل جدا في ذاته وهو (معشوقه) فهو إذن اهتمام بالجمال إلى حد الجنون وفي هذا متعة ممزوجة بألم الجنون!
والخلاصة أن الحب جميل جدا يظمئ ويروي يعذب ويمتع ولكنه يجعل حياتنا أكثر حرارة وإثارة ويجعلنا نعيش وجودنا في وجود آخر ونحس بأرقى المشاعر ونتذوق أرهف الجمال.. نعم